تآكل اليمني: صراع صامت بين القوة والانهيار

(#وكالة_الأنباء_الحضرمية) السبت 19/يوليو/2025م
بقلم: عبدالله حسن قاسم
غالبًا ما نرى اليمني في مظهره الخارجي، صلبًا متماسكًا، واقفًا رغم العواصف التي تحيط به من كل جانب. لكن الواقع الذي يسكن داخله مختلف تمامًا. هو واقع هشّ قد لا تدرك أبعاده العين المجردة، لكنه يتغلغل عميقًا في أركان ذاته وروحه.
في مشاهد الحياة اليومية، قد تصادف عاملًا يغمى عليه فجأة، طبيبًا ينهار داخل غرفة الطوارئ، أو أستاذًا جامعيًا يسقط أمام طلابه. هذه ليست حوادث عابرة أو لحظات ضعف فردية فقط، بل مؤشرات تنذر بتآكل الإنسان اليمني من الداخل. هذا التآكل ليس مجرد مرض عضوي، بل هو نتيجة منظومة معقدة من الضغوط المعيشية والنفسية والاقتصادية التي نخرته حتى العظم.
تشير الأرقام إلى حجم الأزمة الحقيقية التي يواجهها الإنسان اليمني: أكثر من 80% من السكان يعيشون تحت خط الفقر، ونسبة مرتفعة من الأمراض المزمنة المرتبطة بالتوتر النفسي تفوق 30%. منظمة الصحة العالمية تؤكد ارتفاع حالات الانهيار العصبي والإجهاد الحاد، خاصة بين العاملين في القطاع الصحي، بنسبة 45%. كما زادت حالات الإغماء والانتحار بين الطلاب والمهنيين، في ظل غياب أفق واضح للأمان والاستقرار. إضافة إلى ذلك، يعاني أكثر من 70% من الأسر من انعدام الأمن الغذائي، مما يزيد من وطأة الضغوط على المجتمع بأكمله.
يمكننا تشبيه اليمني اليوم بطاولة خشبية مركونة في زاوية مظلمة، تبدو للوهلة الأولى متماسكة، تحتفظ بقوامها، لكنها تنهار بمجرد أن تُحمَّل بثقل بسيط. هذه الصورة تعكس واقعًا يبدو “بخير” من الخارج، لكنه يتآكل بصمت من الداخل.
الأزمات المتلاحقة التي يعيشها اليمني أكلته كما يأكل السوس جذعًا خشبيًا صلبًا، فهشّمته من الداخل وأضعفته. كثيرون ممن ظنناهم أشداء، قاوموا بكل ما تبقى لديهم من إرادة، لكنهم في النهاية انهاروا بعدما فرغت دواخلهم من كل طاقة.
الحرب، الغلاء، انعدام الأمان، وضياع الأمل، كلها تحولت إلى فأسٍ تنخر في جذع الإنسان اليمني، والألم الأكبر أن هذه الفأس قد تأتي أحيانًا من أقرب الناس، من صديق، أخ، أو حتى منظومة كانت من المفترض أن تحميه.
ومع كل هذا التآكل العميق، لا يزال في اليمني ما يشبه الشجرة التي تقاوم الجفاف، تضرب جذورها عميقًا في الأرض وتنبت فروعًا جديدة حين يُبتر منها غصن. لا يهاب الرياح ولا الفؤوس، حتى تلك التي كانت يومًا من أغصانه.
لكن هذه الصورة المشرقة لا تخفي الحقيقة المؤلمة: هذا الإنهاك لم يكن قدرًا محتومًا، بل نتاج خذلان متراكم. خذلان الدولة، غياب العدالة، تواطؤ الأقربين، وصمت رسمي واجتماعي قاتل. لقد أصبح كثير من اليمنيين ضحايا هذا الخذلان الذي أرهقهم حتى أفقدهم الأمل.
لذا، يجب أن نتوقف عند هذه اللحظة، لا للتغني بصبر اليمنيين فقط، بل للاعتراف بوجعهم. لا لاستدعاء أساطير الصلابة فحسب، بل لفهم أسباب الانهيار العميق. لم يعد السؤال: إلى متى سيصمد اليمني؟ بل صار: كم بقي فيه ليصمد أصلًا؟
