بين مخلب الشرق والغرب: كيف تحوّل الجنوب إلى أداة إقليمية؟

(#وكالة_الأنباء_الحضرمية) الأحد 21/ديسمبر/2025م
إن التوق الفطري لأي شعب نحو بناء دولة مستقلة ذات سيادة، تمكّنه من منافسة الأمم وصناعة مستقبله، يُعد غاية سامية تتضاءل في سبيلها كل التضحيات. غير أن مسار الشعوب لا يسير دائمًا باتجاه تجسيد هذه السيادة، بل قد ينحرف ليحوّلها إلى مجرد أداة وظيفية في يد قوى أكبر، تُصادر قرارها وتوجّه مصيرها لخدمة أجندات إقليمية ودولية.
وهنا يبرز السؤال المصيري: هل كُتب “للجنوب” أن يكون سيدًا على أرضه، أم أنه محكوم عليه بالبقاء كيانًا وظيفيًا في حسابات الآخرين؟
الجذور التاريخية: من الشيوعية إلى الرأسمالية العالمية
منذ رحيل آخر جندي بريطاني عن عدن، لم يُتح للجنوب مجال حقيقي لالتقاط أنفاسه ككيان مستقل. إذ سرعان ما ارتهن للنموذج الشيوعي، ليتحوّل إلى ما يشبه «مخبرًا وعصًا غليظة» في يد المنظومة الاشتراكية العالمية. استُخدم الجنوب حينها قاعدة لدعم حركات شيوعية في أربع جهات العالم، من «الخمير الحمر» في كمبوديا، إلى ثوار التاميل، ومن سان سلفادور إلى نيكاراغوا. كان الجنوب آنذاك أداة في الصراع الإيديولوجي الدولي، بينما ظل حلم الدولة السيادية مؤجلًا وغائبًا.
واليوم، يعيد التاريخ إنتاج نفسه بأدوات مختلفة. فبعد أن كان الجنوب مخلبًا للشيوعية، يُعاد تشكيله ليكون مخلبًا للرأسمالية العالمية، وابنها المدلل في الشرق: إسرائيل. هذه المرة لا لمواجهة خصوم إيديولوجيين، بل لتمزيق النسيج الجيوسياسي العربي، والتحول إلى رأس حربة في مواجهة جواره العربي، ولا سيما السعودية وسلطنة عُمان.
لقد انتقل الجنوب من أداة «حمراء» إلى أداة وظيفية في الاستراتيجية الغربية–الإسرائيلية الرامية إلى تفكيك المحور العربي الجنوبي.
وكما يُوظَّف الجنوب ضمن استراتيجيات التفكيك والإحلال الإقليمي، فإن المشروع ذاته يُطبَّق، بدهاء، على شمال اليمن، وإن اختلفت الآليات وتغيّرت الواجهات. فالقضاء على سلطة الحوثي في صنعاء لا يستهدف، في الحسابات الجيوسياسية الكبرى، إعادة اليمن إلى شعبه أو استعادة سيادته، بل استبدال سلطة غير منضبطة بسلطة وظيفية جديدة. يُراد لشمال اليمن أن يخرج من عباءة مشروع “مقاوم” يربك محورًا إقليميًا، ليدخل عباءة حلفاء جدد، يُنتقون بعناية ليكونوا امتدادًا طيعًا للفكر الوظيفي ذاته.فهؤلاء، وإن اختلفت شعاراتهم وعناوينهم عن الحوثيين، فإن الدور المرسوم لهم يظل محصورًا في تنفيذ أجندات تحفظ مصالح القوى المنافسة، وتحويل الشمال إلى كيان ضعيف ومفكك، يُدار من خارج حدوده، ويُستخدم كأداة ضغط وردع دائمة في المعادلة الإقليمية، بدلًا من أن يكون شريكًا في بناء استقرار يمني سيادي.
وهكذا، تتحول عملية «التحرير» المزعومة إلى مجرد نقل للتبعية من شكل إلى آخر، حيث يُستبدل عدو غير قابل للضبط بحليف وظيفي قابل للتوجيه، والغاية واحدة: إدامة التفتيت الداخلي، وإبقاء اليمن بشطريه ساحة صراع بالوكالة، وحاجزًا أمنيًا وظيفيًا في خدمة استقرار الآخرين.
آليات التحويل الوظيفي: حروب الوكالة والتفتيت الإقليمي
لا يقتصر الدور الوظيفي للجنوب على التموضع الجيوسياسي، بل يتعداه إلى استنزاف موارده البشرية في حروب بالوكالة تخدم مصالح قوى خارجية. فها هم أبناء الجنوب يُزجّ بهم في أوغادين الصومالية، في مواجهة غير مباشرة مع القوات المصرية المرابطة هناك.
وتُفتح جبهة إضافية مع إريتريا، بهدف خلق منفذ استراتيجي على البحر الأحمر، يُضاف إلى مسار التمكين الإسرائيلي، عبر تقديم جزيرة كميون كبديل استراتيجي عن جزر دهلك، لتتحول إلى نقطة مراقبة متقدمة في مضيق باب المندب، وذراع طويلة قد تُستخدم مستقبلًا لخنق مصر.
أما الاتفاقية الحدودية المبرمة مع “سلطات اليمن”، فلا تبدو سوى حلقة أخرى في مسلسل التفتيت، إذ تُفضي إلى عزل عدن عن عمقها الجنوبي، وإضعاف أي كيان محتمل يمكن أن ينشأ. إنها هندسة حدودية لا تخدم سيادة الجنوب، بقدر ما تُراعي متطلبات الاستقرار الإقليمي وفق منظور القوى الكبرى.الاحتواء المزدوج: السعودية وإيرانفي الإطار الأوسع، لا يقتصر الدور الوظيفي على مواجهة الفاعلين العرب، بل يمتد ليكون أداة في سياسات الاحتواء الإقليمي. فبينما تُدفَع السعودية إلى تمزيق علاقاتها التاريخية بعمقها الجنوبي، تُستخدم الأرض والمياه الجنوبية أيضًا كمساحة لاحتواء إيران. إن تمدد النفوذ الإسرائيلي إلى جزر المحيط الهندي، مثل سقطرى وعبد الكوري، ليس سوى حلقة ضمن سلسلة محكمة للتحكم بالممرات المائية الدولية، ومراقبة الشرايين التي تمر عبرها تجارة العالم ونفط الخليج.وهكذا، يتحول الجنوب إلى ساحة صراع خفي بين المحاور، تُقام فيها القواعد، وتُنسج التحالفات، لا من أجل مصلحة أهله، بل لخدمة استقرار النظام الدولي وفق الرؤية التي ترسمها القوى الكبرى.
الخاتمة: نحو فك الارتباط الوظيفي
يُظهر التحليل الاستراتيجي بوضوح أن”الجنوب العربي”، رغم ما يمتلكه من ثروات وإمكانات وموقع جغرافي فريد، ما يزال يدور في فلك الوظيفية لا السيادة. ولن يتحقق تحرره الحقيقي إلا بوعيه بهذه اللعبة الجيوسياسية، ورفضه أن يكون أداة في يد من يدّعون حمايته.
فالشعوب التي تطمح إلى السيادة لا بد أن ترفض أن تكون مخلبًا لأي قوة، حمراء كانت أم زرقاء، شرقية أم غربية.ويبقى السؤال الجوهري: متى يتحول الجنوب من ورقة في حسابات الآخرين إلى صانعٍ لقدره؟الجواب لن يأتي من الخرائط المرسومة في غرف الاستخبارات الدولية، بل من إرادة جمعية لشعب قرر أن يكتب تاريخه بيده، لا أن يكون مجرد حبر في دفاتر تاريخ الأمم الأخرى.



